جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. logo إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .
shape
شرح كتاب العظمة المجموعة الثانية
140080 مشاهدة print word pdf
line-top
الأمر بالنظر في خلق السماوات والأرض

...............................................................................


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كثيرا ما يأمر الله تعالى عباده أن يتفكروا ويعتبروا فيما بين أيديهم وما خلفهم؛ ليأخذوا آية ودلالة على قدرة ربهم الذي خلقهم من عدم, والذي خلق لهم هذه المخلوقات. لما نزل قول الله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ قال المشركون: وما آية ذلك؟ أي: ما الدلالة على أنه إله واحد؟ أنزل الله الآية بعدها إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .
فإن هذه الآيات آيات ودلالات لقوم يعقلون، ولا يعتبر بها إلا أهل العقول الذكية, يتأملون ويتعقلون, ويعتبرون في خلق هذه السماء، وخلق هذه الأرض، واختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض.
كلها آيات وعِبَرٌ ودلالات شاهدة بعظمة مَنْ أوجدها, ومَنْ خلقها. أقرب شيء إلى الإنسان: هذه الأرض, وما خلق الله تعالى فيها، إذا اعتبر فيها وتفكر استدل بذلك على عظمة الله سبحانه, وعلى كمال قدرته، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ الذين لا يعقلون ولا يتأملون ولا يتفكرون ولا يتذكرون ولا يعتبرون, هؤلاء بلا شك أشبه بالبهائم, حيث أنهم لم يتفكروا فيما خلقوا له, ولم يعرفوا الحكمة التي خلقوا لها؛ حيث لم ينظروا فيما بين أيديهم وما خلفهم.
ولو علموا لعرفوا أنهم ما خلقوا عبثا، وأن الذي خلقهم لا بد أن له عليهم حقوقا عظيمة، فلا يسعدون إلا بأدائها كلها، فإذا اتبعوا أهواءهم وشهواتهم, وأكبوا على ما تميل إليه نفوسهم، وأشبعوا غرائزهم وبطونهم وفروجهم، وجعلوا ذلك هو أكبر ما يهتمون به لم يلتفتوا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، ولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، ولم يتأملوا ولم يتعقلوا؛ فأصبحوا بذلك كالبهائم التي ما خلق الله لها عقولا تفكر فيه، إنما جعل لها شهوة تعيش بها, تأكل من يابس, أو رطب هذا النبات, وتتوالد وليس لها تفكير ولا نظر.
فهكذا مَنْ لم يتأمل ولم يتفكر ولم يتعقل فيما خلق له هو مثل البهائم، وقد يكون أقل حالة من البهائم! نعرف أن الله سبحانه يلفت أنظار عباده إلى المخلوقات العلوية والسفلية فيأمرهم بأن يتفكروا في هذه المخلوقات ويعتبروا فيها، قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ الرب هو المربي, وهو المالك، أمرهم بأن يستدلوا على أنه ربهم بخلقه لهذه المخلوقات العلوية والسفلية، فإذا تأملوا فيها عرفوا أنه ربهم, وأنه الذي يملكهم ويتصرف فيهم. خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني: أنشأها, وابتدأ خلقها دون أن يتخذ معه أعوانا أو شركاء. خلقها كما يشاء.
ذكر الله تعالى أنه خلق سبع سماوات طباقا، يقول الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا يعني: انظر في هذه السماء التي فوقنا هل تجد فيها تشققا أو تفطرًا؟ تجد أن الله أحكمها عندما خلقها وجعلها طِبَاقًا أي: طبقة بعد طبقة, أحكمها وجعلها بهذا الخلق, أي سماء فوق سماء, إلى سبع كما شاء. سبع سماوات طبقة بعد طبقة, أي سماء فوق سماء مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ أي اختلال.. لا تجد فيها عيبا ولا خللا؛ هذا شاهد على أنه سبحانه خلقها سبع سماوات. وقد مر بنا أن بعد ما بيننا وبين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة سنة.
مَنِ الذي يحصيها؟ حددها الله تعالى, وأطلع نبيه على هذه المسافة. وكذلك ورد أن ضخامة وكثف هذه السماء وعرضها أو غلظها كذلك مسيرة خمسمائة سنة. وهكذا السماوات, كل سماء بهذه المسافة؛ ومع ذلك خلقها الله تعالى كما شاء. قال بعض المؤرخين والفلكيين: إن الله خلقها من مادة البخار, أمر البحار أن تتبخر، فكان بخارها لما تجمد كانت منه هذه الأفلاك العلوية هذه السماوات, ثم رسب منه ما ترسب من ذلك الماء المتجمد, فخلق منه هذه الأرض وما عليها. الله تعالى قادر على أن يخلقها بدون مادة تتكون منها, بل: إنما يقول للشيء كن فيكون، إنما أمره بين الكاف والنون, فخلقها كما شاء دون أن يكون لها مادة تتكون منها, أو تتركب منها كما يشاء الله.
كذلك أيضا ورد الأمر بالنظر فيها للتعقل, وإن كانت أبصارنا لا تصل إليها حقيقة, لبعد ما بيننا وبينها، ولكن النظر فيها -ولو كانت بعيدة- والتأمل فيها والتعقل يفيد الإنسان عبرة وموعظة، ولذلك قال تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ينظروا إليها بعقولهم ويتفكروا ويعترفوا بما أخبرهم به, وبما أمرهم به أنه خلقها. كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ أخبر بأنها مبنية: أي بناها الله تعالى.
ثم أخبر أيضا بأنه رفع سَمْكَهَا يقول تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا بناها كما شاء. رَفَعَ سَمْكَهَا أي: جعلها مرتفعة هذا الارتفاع. فَسَوَّاهَا ليس فيها خلل ولا نقص؛ يدل ذلك على أن ربنا سبحانه أحكم ما خلقه وأتقنه, وأنه أقام على الخلق الْحُجَجَ والبراهين إذا نظروا في هذه الأفلاك العلوية.
كذلك أيضا أخبر بأنه ثبتها بغير عَمَدٍ, يقول الله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا أي: ليس هناك عمد تمسكها. السقف المرتفع يحتاج إلى ما يمسكه, لو سقطت هذه العمد من هذا المسجد لسقط السقف؛ لأنها التي تمسكه، ومع سعة السماء, ومع قوة ارتفاعها أمسكها الله تعالى بقدرته وبقوته، ولم يحتج إلى عمد تمسكها بل رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا .
لا شك أن هذا دليل على عظمة الخالق سبحانه, كيف رفعها بهذا الارتفاع؟ وكيف أمسكها بقوته وبكمال قدرته مع سعتها؟ يقول الله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ الأيد هو: القوة يعني بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ليس هو جمع يد, ليس بأيدي, الأيد: هو القوة, أي بنيناها بقوة, والدليل قول الله تعالى عن داود وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ أي صاحب الأيد, وليس الْأَيْد اليدين، وإنما أراد صاحب القوة في أمر الله.
فهكذا أخبر بأنه بناها بقوة وبقدرة، وبقوله: كن. فكانت كما شاء. وأخبر أيضا بأنه زينها, قال تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ هذه المصابيح هي النجوم؛ النجوم التي رَكَّبَهَا في هذه السماء الدنيا, وسَيَّرَهَا كما شاءت في أفلاكها، تسير كما يشاء الله وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ أي: بهذه النجوم, جعلها كالسُّرُج. المصابيح هي: السرج التي تضيء الظلام؛ فهي تضيء لأهل الأرض، ويهتدون بها، وجعل فيها منافع لهم، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ النجوم مركبة في أفلاكها وسائرة كما يشاء الله، وسيرها يتفاوت؛ فبعضها أسرع سيرا من بعض, وكلها تطلع وتغيب كما يشاء، وبعضها لا يغيب, بل ثابت, كالقطب ثابت في موضعه, لا يتحرك إلا قليلا.
وكذلك أيضا بعضها يكون سيرها أسرع من سير الشمس، وبعضها يسرع في أول ما تطلع, كالزهرة, وعطارد, والمشتري, ونحوها، ثم تتأخر شيئا فشيئا, إلى أن تغيب في المشرق. لاشك أن هذا حكمة من الله, حيث جعلها بهذه الكيفية، أي: أحكمها, فنعتبر بذلك, ونعرف أن الذي خلقها هو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء, وهو مالك الملك، وهو ذو الجلال والإكرام, وهو الذي يستحق أن يُعْبَدَ، كذلك أيضا من آياته هذه الأرض التي بسطها للأنام.
قال الله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا أخبر بأنه دحاها, وأخبر بأنها بُسِطَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي: صارت مسطحة مستوية، ومع ذلك جعلها فراشا .. فراشا للإنسان يتقلب فيها الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وجعلها بساطا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا .
هذه آياتٌ يُذَكِّرُ الله بها عباده وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا السُّبُل: الطرق، أي: تسلكوا طرقا بين هذا وهذا.
فهذه آياته التي أمر بأن يعتبر الناس بها، يقول الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ .
خلق السماوات وخلق الأرض وما بث في الأرض التي تشاهدونها من الدواب التي تنتشر فيها، لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وقد أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وضمن لكل منها قُوتَهُ ورزقه الذي يكون سببا في وجوده, وفي حياته كما يشاء. فإذا اعتبر الْعِبَاد وتفكروا عرفوا بذلك قدرة مَنْ أوجد هذه الموجودات وأحكمها، ويكون من نتيجة ذلك: إخلاص العبادة له ولما فسر ابن كثير قول الله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .
أنشد ما نقل عن ابن المعتز الذي هو من الشعراء الإسلاميين، يقول:
فـوا عجبـا كيـف يعصـى الإلـه
أم كــيف يجـحــده الجـاحـد
وفــي كــل شـيء لـه آيــة
تـــدل عـلــى أنــه واحـد
وللــه فــي كــل تحـريكـة
وتســكينـة أبــدا شــاهـد
يعني: كيف يعصي رَبَّهُ العبدُ؟ ولا يتأمل ولا يتفكر في هذه الموجودات, ويأخذ منها عبرة على قدرة من خلقها وأوجدها. كيف خلقها خلقا تاما؟ ليس منها مخلوق يحس بشيء من النقص.
ذكر بعض العلماء أن أكبر, أو من أكبر المخلوقات المشاهدة الحية الفيل, ومن أصغرها البعوض الناموس.

line-bottom